عالم اليوم موزّع بين أربع نزعات: نزعة الصدام بين الحضارات والثقافات الإنسانية والتي روجها صموئيل هنتنغتون بمقالته ومن ثم بكتابه سيّء السمعة (صدام الحضارات)، والتي تروق، فيما يبدو، للسياسيين اليمينيين وصانعي القرار في ذلك الجزء من الغرب الذي لم يبرأ بعد من فيروس القوة والسلطان؛ ونزعة الحوار فيما بين هده الحضارات والثقافات التي تدغدغ نفوس الكثيرين من الحالمين بجدوى الحوار بين القوي والضعيف والغني والفقير والقادر والعاجز، والتي دافع عنها ودعا إليها من على المنابر الدولية في نيويورك وباريس وبرلين الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي؛ ونزعة الشراكة التي يؤمن بها الكثيرون من المثقفين الواقعيين المستقلين برأيهم؛ ونزعة تحالف الحضارات التي دعا إليها مؤخراً رئيس وزراء إسبانية ثاباتيرو السياسي الاشتراكي.
وأدباء العالم ـ بدعوى انتمائهم إلى هذا العالم ـ موزعون كذلك بين هذه النزعات الأربع: فريق يؤيد الصدام ويذكي أواره، وفريق ثان يدعو إلى الحوار ويشجع الفرقاء عليه، وفريق ثالث ينزع إلى القبول بمبدأ التحالف بين الحضارات سبيلاً إلى نزع فتيل التوتر فيما بينها، في حين يرى فريق رابع في الشراكة، والشراكة وحدها، الحلّ لهذا الصدام الذي يشهد العالم مقدماته التي تنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور التي تنتظر الإنسانية.
وأدباء العربية ومثقفوها ومفكروها مشغولون بمراقبة أنصار هذه النزعات، ومتابعة ما يصدر عنهم من آراء ومواقف ووجهات نظر. وحالهم في ذلك حال أعضاء فرقة موسيقية ينتظرون إشارة، أو إيماءة من المايسترو، ليبدؤوا عزفهم بتوجيهه وإرشاده، مع أنهم يعلمون تمام العلم أنه ما كان في موقعه، وأنهم ما كانوا في مواقعهم، إلاّ لأداء قطعة موسيقية ألّفها موسيقار وقع عليه اختيارهم ليكون في برنامج الأمسية. والمشكلة لا تكمن في التعلّق بتلابيب المايسترو من جهة، أو نص النوطة الموسيقية من جهة أخرى، فالمتابعة المخلصة، ولو جاءت على حساب محو الذات، يمكن أن تكون مثمرة بتقديمها عرضاً متسقاً منسجماً داخلياً، وحاملاً لدلالة محددة يمكن أن يلتقطها جمهور المصغين بأسماعهم وقلوبهم؛ ولكنها في الحقيقة تكمن في وجود عدد لا بأس به من قوّاد الفرقة، بل في وجود عدد كبير من الفرق الموسيقية، وتوزّع العازفين العرب فيما بينها، وبذلك عدم قدرتهم على تقديم وجهة نظر عربية منسجمة داخلياً ومتسقة ومتماسكة، أو تفسير خاص بهم لما يؤدونه من قطعة موسيقية.
ومعنى هذا أن على هؤلاء الأدباء والمثقفين والمفكرين العرب أن يكفّوا عن التعلق بتلابيب «الآخر» في هذه المسألة، ولاسيما أن لهذا «الآخر» برنامجاً خاصاً به يتوخى تنفيذه من وراء تبنيه أية نزعة من النزعات الأربع. وعليهم أن يفكروا فيما يمكن أن يقوموا به بأنفسهم، دعماً لما يؤمنون به وإخلاصاً لما ترجوه الأمة منهم وما تتطلع إليه من مستقبل يعمّه السلم والرخاء، وعلى هذا فإن من واجبهم أن يبادروا إلى القيام بعمل ما يخدم ما يسمى بنزعة الحوار بين الحضارات والثقافات الإنسانية، بوصفه وسيلة ناجعة لتأسيس شراكة واعدة بتحقيق الكثير لكلا الطرفين.
ومعنى هذا أيضاً أن يبادر الأدباء إلى التفكير في الإجابة على سؤال صريح عليهم أن يواجهوه بالتفكير والتدبير في آن معاً، بالقول والفعل، ولا سيما أن فعلهم قول وقولهم فعل. وهذا السؤال هو:
ما الدور الذي يمكن أن يؤديه الأدب في حوار الحضارات المنشود سبيلاً إلى بلوغ الشراكة المرجوة ؟
الأدب ـ كما يقرّ منتجوه ومتلقوه ـ نشاط إنساني، وبوصفه يمثل الإفصاح المبين الأمثل عن روح منتجيه (سواء أكانوا أمة عريقة، أم شعباً من الشعوب، أم مجموعة بشرية محدودة) بأداة هي أداة إنسانية (فاللغة الطبيعية لا توجد إلا بوجود المجتمعات الإنسانية)، فإنه يمكن أن يؤدي دوراً مهماً في الحوار المنشود بين الحضارات.
فإذا كان الحوار بين الحضارات ينبغي أن يؤسس على المعرفة بين «الأنا» و «الآخر» ـ طرفي الحوار، فإن الأدب بالتأكيد من أفضل سبل معرفة النفس ومعرفة الآخر. والحضارة التي تودّ أن تقيم حواراً مع الحضارات الإنسانية الأخرى يمكن أن تستعين بالأدب على معرفة الحضارة الأخرى التي يمثل الأدب روحها، ويجسّد خصوصيتها ضمن التنوع الإنساني الخلاق. مثلما يمكن أن تعهد إلى أدبها بالتعريف بها وتمثيلها، واختزال روحها، والإفصاح عن خصوصيتها. ولا ريب أن الصورة التي يمكن أن يقدّمها أدب الأمة أو الشعب أو المجموعة البشرية عن منتجيه ستكون صورة صادقة وحيّة وموضوعية، ونحن هنا نتحدث عن الأدب الجدير بهذه التسمية. وبذلك فإن معرفة «الآخر» من خلال الأدب، بغرض إقامة حوار معه، ربما كانت من أجدى سبل المعرفة بالآخر.
ولكن كيف يمكن أن يؤدي الأدب دوره في «حوار الحضارات» ؟
يؤدي الأدب دوره من خلال الترجمة التي تيسّره « للآخر»الذي لا يعرف لغته؛ يؤديه من خلال التلقي المدروس والمنظم والمتقن لأدب «الآخر»: عرضاً ودراسة وتحليلاً ونقداً وتدبّراً رفيعاً؛
يؤديه من خلال دراسة مناطق التخوم أو الحدود التي تجمع ما بين الآداب القومية المختلفة، وتحفز التطوير والتغيير في هذه الآداب، وهو ما نستطيع أن نعهد به إلى الدرس المقارن للأدب،
يؤديه من خلال النشاطات المختلفة المشتركة مع «الآخر» في دراسة «المشترك» ما بين الآداب الإنسانية: كالمؤتمرات، والمنشورات الجمعية التي تتم من خلالها دراسة الأدب بوصفه فناً جميلاً، يُدرّس ويُتدبّر كما يُدرّس أي علم أو أية معرفة إنسانية أخرى. ذلك أن الإنسانية واحدة، وفنّها واحد، وأدبها واحد، وأجمل ما فيه تنوّعه الخلاق الذي نستطيع أن نستكشف آفاقه عن طريق السعي لمعرفة منتجيه «الآخرين».